فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبرًا لما صبرت.
المسألة الثانية:
اعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه.
أحدها: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلًا للشيطان سلطه الله عليه، لقوله تعالى حكاية عنه: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وهذا جهل، أما أولًا فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلهًا، وأما ثانيًا فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال: {وما كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] والواجب تصديق خبر الله تعالى، دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه.
واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه، فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لابد وأن يكون قادرًا على خلق الأجسام، وهل هذا إلا محض التحكم، وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه، وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه، ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة.
وثانيها: قالوا: ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد، لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضًا أن يسأل ربه من قبل نفسه، فإن قيل: أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره، قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك، من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع.
وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير جائز، لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية.
المسألة الثالثة:
قال صاحب الكشاف قوله تعالى: {أَنّي مَسَّنِيَ الضر} أي ناداه بأني مسني الضر، وقرئ إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناهـ. والضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
المسألة الرابعة:
أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب.
قال العلامة الثعالبى: في صدر القصة: إن اللَّه سبحانه أَذِنَ لإبليسَ لعنه اللَّه في إهلاك مال أيوبَ، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، واللَّه أعلم بصحة ذلك، ولو صَحَّ لوجب تأويله. اهـ.
فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابرًا.
والجواب: قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعًا إذا كان في شكواه راضيًا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] أما قوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} فالدليل على أنه سبحانه: {أَرْحَمُ الرحمين} أمور.
أحدها: أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلبًا للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعًا للرقة الجنسية عن الطبع، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال، فكان سبحانه أرحم الراحمين.
وثانيها: أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعامًا أو ثوبًا أو دفع عنه بلاء، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء، ثم بعد وصول تلك العطية إليه، فلولا أنه سبحانه جعله سببًا للراحة لما حصل النفع بذلك، فإذًا رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين.
وثالثها: أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه، فكان الراحم هو الحق سبحانه، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية، فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء، وكان قادرًا على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه؟ والجواب: أن كونه سبحانه ضارًا لا ينافي كونه نافعًا، بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.
أما قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ} فإنه يدل على أنه دعا ربه، لَكِن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعًا منه على سبيل التعريض، كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا.
ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما ثم فيه قولان: أحدهما: وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم.
والثاني: روى الليث رضي الله عنه، قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا.
فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا.
والقول الأول أولى لأن قوله: {وآتيناه أهله} يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضًا.
وأما قوله تعالى: {وذكرى للعابدين} ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والإحتساب، وإنما خص العابدين بالذكرى لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}.
القصة السابعة:
اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضًا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة، أما إسمعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين، وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «بعث إلى قومه داعيًا لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة» وأما ذو الكفل ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
فيها بحثان:
الأول: قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير، والكفل أيضًا النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه.
أحدها: وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم.
وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: «إن نبيًّا من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك، فقام شاب وقال: أنا أتكفل لك بهذا فقال في القوم: من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال: أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه، ووفى بما ضمن فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل، فقال: إن لي غريمًا قد مطلني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال: إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب وبقي منتظرًا حتى فاتته القيلولة، ثم أتاه فقال له: هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس وعرفه نفسه، وقال له: حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به، فشكره الله تعالى على ذلك ونباهـ. فسمي ذا الكفل».
وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة.
وثالثها: قال مجاهد: لما كبر اليسع عليه السلام، قال: لو أني استخلفت رجلًا على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثًا يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب، وذكر على كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام.
وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث: قد غلب على النعاس فلا تدعن أحدًا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق على النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب، فقال: أما من قبلي فلم تؤت. فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت، فقال له: أتنام والخصوم على الباب. فعرفه فقال: أنت إبليس، قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني. فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به.
المسألة الثانية:
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبيًّا ولَكِن كان عبدًا صالحًا، وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه: أحدها: أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقبًا وأن يكون اسمًا، والأقرب أن يكون مفيدًا، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب.
إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء.
وثانيها: أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسمعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته.
وثالثها: أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي.
المسألة الثالثة:
قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس، ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس وذو النون، محمد وأحمد.
وأما قوله تعالى: {كُلٌّ مّنَ الصابرين} أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه.
وقوله: {وأدخلناهم في رَحْمَتِنا} قال مقاتل: الرحمة النبوة، وقال آخرون بل يتناول جميع أعمال البر والخير. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي} الآية.
حكى الحسن البصري: أن أيوب آتاه الله مالًا وولدًا فهلك ماله، ومات أولاده، فقال: ربِّ قد أَحْسَنْتَ إلى الإِحسانَ كُلَّه، كنتُ قبل اليوم شَغَلَنِي حُبُّ المالِ بالنهارِ، وشَغَلَنِي حُبُّ الولدِ بالليلِ، فالآن أُفَرِغُ لك سمعي وبصري وليلي ونهاري بالحمد والذكر فلم ينفذ لإِبليس فيه مكر، ولا قدر له على فتنة، فَبُلِي في بَدَنِهِ حتى قرح وسعى فيه الدود، واشتد به البلاء حتى طرح على مزبلة بني إسرائيل، ولم يبق أحد يدنو منه غير زوجته صبرت معه، تتصدق وتطعمه، وقد كان آمن به ثلاثة من قومه، رفضوا عند بلائه، وأيوب يزداد حمدًا لله وذكرًا، وإبليس يجتهد في افتتانه فلا يصل إليه حتى شاور أصحابه، فقالوا: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته، فقالوا شأنك أيوب من قبل امرأته قال: أصبتم فأتاها فذكر لها ضر أيوب بعد جماله وماله وولده، فصرخت، فطمع عدو الله فيها، فأتاها بسخلة، فقال ليذبح أيوب هذه السخلة لي ويبرأ، فجاءت إلى أيوب فصرخت وقالت يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ولا يرحمك؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين لونك الحسن؟ قد بلى، وقد تردد الدواب، اذبح هذه السخلة واسترح. قال لها أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقًا فأجبتيه؟ أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والشباب والصحة من أعطانيه؟ فقالت الله، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: منذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ فقالت: منذ سبع سنين وأشهر قال: ويلك والله ما أنصفت ربك، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، ثم طردها وقال: ما تأتيني به على حرام إن أكلته، فيئس إبليس من فتنته. ثم بقي أيوب وحيدًا فخر ساجدًّا وقال: ربِّ، {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وفيه خمسة أوجه:
أحدها: أن الضر المرض، قاله قتادة.
الثاني: أنه البلاء الذي في جسده، قاله السدّي، حتى قيل إن الدودة كانت تقع من جسده فيردها في مكانها ويقول: كلي مما رزقك الله.
الثالث: أنه الشيطان كما قال في موضع آخر {أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بنُصُبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] قاله الحسن.
الرابع: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض، فقال: مسني الضر، إخبارًا عن حاله، لا شكوى لبلائه، رواه أنس مرفوعًا.
الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه، فقال: مسني الضر، وهذا قول جعفر الصادق رحمه الله.
وفي مخرج قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أربعة أوجه:
أحدها: أنه خارج مخرج الاستفهام، وتقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
الثاني: أنت أرحم بي أن يمسني الضر.
الثالث: أنه قال ذلك استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه.
الرابع: أنه شكا ضعفه وضره استعطافًا لرحمته، فكشف بلاءه فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين، فاغتسل منها وشرب فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله، وقام صحيحًا، وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولده.
ثم إن امرأته قالت: إن طردني فإلى من أكلِه؟ فَرَجَعَتْ فلم تَرَهُ، فجعلت تطوف وتبكي، وأيوب يراها وتراه فلا تعرفه فلما سألته عنه وكلمته فعرفته، ثم إن الله رحمها لصبرها معه على البلاء، فأمره أن يضربها بضِغث ليبّر في يمينه، قاله ابن عباس. وكانت امرأته ماخيرا بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}.
قال ابن مسعود: رد الله إليه أهله الذين أهلكهم بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم. قال الفراء كان لأيوب سبع بنين وسبع بنات فماتواْ في بلائه، فلما كشف الله ضره رَدّ عليه بنيه وبناته وولد له بعد ذلك مثلهم، قال الحسن: وكانوا ماتوا قبل آجالهم فأحياهم الله فوفاهم آجالهم، وأن الله أبقاه حتى أعطاهم من نسلهم مثلهم.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}.
قوله تعالى: {وَذَا الْكِفْلِ} فيه قولان:
أحدهما: أنه لم يكن نبيًّا وكان عبدًا صالحًا كُفِلَ لنبي قيل إنه اليسع بصيام النهار وقيام الليل، وألا يغضب، ويقضي بالحق، فوفى به فأثنى الله عليه، قاله أبو موسى، ومجاهد، وقتادة.
الثاني: أنه كان نبيًّا كفل بأمر فوفى به، قاله الحسن.
وفي تسميته بذي الكفل ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه كان...
الثاني: لأنه كفل بأمر فوفى به.
الثالث: لأن ثوابه ضعف ثواب غيره ممن كان في زمانه. اهـ.